المزاح ضوابط ومحاذير
الحمد لله شرع فيسّر، وحكم فقدّر، وملك فدبّر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبان الحق وأظهر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير البشر، والشافع المشفّع في المحشر، بلّغ وذكّر، وحذّر وأنذر، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الميامين الغرر، ومن تبعهم بإحسان وحسن اقتفاء إلى يوم المآب والمستقر، أما بعد:
فمصباح الظلام، ودليل الأنام، وطريق الجنة دار السلام هي والذي نفسي بيده، في القرب من العظيم وتقواه، وحسن عبادته وإتباع كتابه وسنة نبيه والاهتداء بهداه، فالزموها، وامتثلوها، رزقنا الله وإياكم إياها.
عباد الله: النفوس تمل، والقلوب تكل، ما بين ضجيج الحياة وأعبائها، ومنغصات الدنيا وأدوائها، لذا تجد الناس من بين هذه وهذه يبحثون عن ما يروح النفوس ويسعدها، ويشرح القلوب ويفرحها، يبحثون عن ذلك في البسمة، والدعابة، والطرفة، والنكتة، والملحة، بها يملحون مجالسهم، وبحديثها يؤانسون بعضهم، ويخففون همومهم وغمومهم.
ومن عظم هذا الدين وروعته، وكمال منته، وجزيل نعمته، أنه لم يهمل هذا الجانب، ألا وهو جانب الترويح عن النفس، فكان r يمازح أهله وأصحابه مزاحاً طيباً.
أثبتته كتب السنة، وحفلت به دواوين الحديث، في دعابة خفيفة، وطرفة لطيفة، مع ما كانت حياته r مليئة بالأعمال العظام، والمهام الجسام.
وشرعية الإسلام ومنهجيته، لم تترك أمر المزاح والترويح سدى يسير فيه الناس على غير هدى، كلا بل سنت ضوابط وآداب تكفينا شرور المزاح وآفاته.
ولجهل الناس وبعدهم عن تعاليم الدين وضعف الإيمان والتهاون في مثل هذه الأمور أصبح الرائي يرى خللاً في مفهوم المزاح وكيفيته، مما يجعل الحديث ملحّاً والكلام مهماً عن منهج الإسلام في المزاح، وكيف كان r يمزح وكذا أصحابه؟ وآداب المزاح، وأخطاء الناس فيه، لاسيما في هذا الزمان التي أصبحت فيه بعض الطرف تشرى وتباع، وتقام لها مجالس وبرامج والله المستعان.
ولننظر يا رعاكم الله إلى النبي r وأصحابه كيف كانوا يمزحون؟
فعن أنس t أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان النبي r يحبه وكان ذميماً فأتاه النبي r يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره فقال زاهر: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي r فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي r حين عرفه، وجعل النبي r يقول: "من يشتري العبد؟" قال: يا رسول الله، إذاً تجدني كاسداً، فقال النبي r: "لكن عند الله لست بكاسد"، وقال: "لكن أنت عند الله غالٍ" رواه أحمد.
وأخرج الترمذي وأبو داود عن أنس أن رجلاً أتى النبي r فقال: يا رسول الله احملني، فقال النبي r: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، قال: وما أصنع بولد الناقة، فقال النبي r: "وهل تلد الإبل إلا النوق".
وذات يوم ركب الحسن والحسين على ظهره وهو يصلي، فأطال الصلاة وهو إمام، ثم اعتذر للصاحبة عن الإطالة.
وكان يخرج لسانه للحسن بن علي فيرى حمرة لسانه.
ويقول محمود بن الربيع: عقلت من رسول الله r مجة مجها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين.
وسابق عائشة فسبقها مرة وسبقته مرة.
وروى الحاكم من حديث عمرة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله r إذا خلا مع نسائه، قالت: كان أكرم الناس وألين الناس، ضحّاكاً بسّاماً..
وهكذا الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح، يقول أبو الدرداء: إني لأستجمَّ قلبي بشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق.
وروى البخاري في الأدب المفرد: كان أصحاب النبي r يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال.
والمعنى أنهم كانوا يتحاذفون بقشر البطيخ الأصفر اللين الذي لا يؤذي كما قال ذلك بعض أهل العلم.
وهذا عبدالله بن عمر يمازح مولاة له فيقول: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام، فتغضب وتصيح وتبكي ويضحك عبدالله بن عمر.
وجاء رجل إلى أحد السلف الفقهاء وقال: إني تزوجت امرأة ووجدتها عرجاء فهل لي أن أردها إلى أهلها؟ فقال له: إن كنت تريد أن تسابق بها فردها.
وهكذا كان مزاحهم ومداعبتهم.
ومما مضى نستنبط ضوابط المزاح وآدابه ومنها:
1)الصدق: فلا بأس بالمزاح إذا كان صدقاً خاليا من الكذب، وهذا أبو هريرة قال: يا رسول الله إنك تداعبنا، قالt: "إني لا أقول إلا حقا أو صدقاً".
والصدق من أعظم الأخلاق.
2)عدم الأذية: فلا بأس بالمزاح إذا لم يكن فيه أذى للناس أو تجريح لمشاعرهم، لأن الأذية محرمة بأي الأشكال كانت، والله يقول: "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً".
3)عدم الإفراط فيه والمداومة عليه، لأن ذلك يؤدي إلى كثرة الضحل التي تميت القلب وتقسيه، وكثير من الناس مع الأسف يستغرقون الساعات الطوال في المزاح وهذا من الخطأ، أفلا علموا أن العبد مسؤول عن عمره فيما أفناه.
وما كان النبي r يمزح عامة وقته، ولكن كالملح في الطعام.
4)أن يكون المزاح في وقته: فهناك أوقات لا بأس بالمزاح فيها لقطع السأم وإبعاد الملل والترويح عن النفس بعد العناء، ولكن بعض الناس يمزحون في أوقات الجد، فلا يهمهم شرف الزمان فيغرقون في المزاح حتى في أوقات العبادات كالحج وغيره.
5)ألا يكون المزاح مع كل أحد من الناس، فالأحمق مثلاً ينبغي أن يتجنب المزاح معه لئلا يؤدي إلى شيء غير مرضي، وكذلك السفيه، ولذا قال الحكماء: لا تمازح الأحمق فيتجرأ عليك وتفقد هيبتك.
إخوة الإسلام: تكاد تكون هذه أهم ضوابط المزاح المحمود، أما المزاح المذموم فهو الذي لمينضبط بالضوابط السابقة، ولاشك أن عواقب المزاح المذموم ليست حميدة شرعاً ولا عرفاً بين الناس، فما أحرانا أن نعود إلى شرع الله، ونعرض أفعالنا وأعمالنا على ميزان الشرع، فالشرع حكيم والشارع عليم، وما ترك الدين خيراً إلا دلنا عليه، وما ترك شراً إلا حذرنا منه، "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا"
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..