تُقسِّم النصيرية أتباعها إلى عقَّال وجُهَّال.
وإذا
أراد أحد من جهال النصيرية الدخول في سلك عُقَّالهم فإنه يمر بعدة مراحل؛
حتى يتيقنوا من خلالها من إخلاصه وصدقه؛ فلا يلقنون الداخل جميع الأسرار
دفعة واحدة، بل يكون ذلك تدريجياً ومن خلال جلسات.
وتبدأ عملية
الدخول بأن يتخذ الشاب الذي يريد ذلك أستاذاً من مشايخهم يلقبونه والداً
روحياً أو دينياً يكون الواسطة له بينه وبين مجلس مشايخهم.
وهذا هو الوالد الحقيق بزعمهم؛ لأنه يقوده إلى السعادة والخير.
أما والداه الحقيقيان فلا فضل لهما عليه؛ لأنهما أنجبا الولد؛ إشباعاً لشهوتهما، وتسببا في خروجه لدار الشقاء.
لذا
فإن الخضوع التام، والتذلل مطلوب من التلميذ أمام شيخه، وإلا لا يمكن أن
يُلَقَّن أسرار الدين؛ لأنها بزعمهم لا تلقن إلا للمتواضع الذليل لأخيه
المؤمن.
والتواضع عندهم يمر في مرحلتين:
الأولى: وضع أحذية المشايخ على رأس الشاب الراغب في دخول العقيدة يتبعها تقبيل أقدام هؤلاء المشايخ.
الثانية:
تتم في الجلسة الثانية من جلسات التلقين وهي قبوله مناكحة الرجال له؛ لأن
هذا عندهم يدل على عدم التكبر والتذلل للأخ المؤمن -كما يزعمون-.
وإذا
رجعنا إلى مبادئ ابن نصير مؤسس فرقتهم والتي دعا إليها، وطبقها عملياً نجد
هذا التواضع من جملة المبادئ التي حملها؛ ففي رواية سعد القمي أن يحيى بن
عبد الرحمن بن خاقان رأى ابن النصير ، وغلامٌ له -أي لابن نصير- على ظهره
-أي على ظهر ابن نصير- قال -أي ابن خاقان-: فلقيت ابن نصير؛ فعاتبته بذلك
فقال: إن هذا من اللذات؛ وهو من التواضع لله وترك التجبر ([2] ).
وهذا
الشيء يطبق عملياً في الجلسة الثانية من التلقين (السماع) وذلك بعد أن
تدور الخمرة في الرؤوس، وتكمل المرأة عملها الشيطاني ينام الحاضرون بجانب
بعضهم بعضاً حتى السحر حيث يحين - وفي ذلك الوقت بالذات - عملية التلقين
الثانية بعد أن يصبح التلميذ ذليلاً قولاً وفعلاً.
والمرأة والخمر أمران مهمان ومتلازمان يقدمان للشاب الداخل في أسرار الدين باعتبارهما جزءاً من الضيافة للدخول في الفردوس.
ويعلق
الدكتور الخطيب على ذلك بقوله: وفي نظري أن تلقين أسرار النصيرية في جو
الخمرة والمرأة، يوضح لنا عملية التخدير النفسي والجسدي والعقلي التي تقع
على الشاب وهو يلقن أسرار دينه؛ فكؤوس الخمر تدار بين وقت وآخر، فتلعب
دورها في تخدير عقل الشاب، وتأتي الأنثى لتكمل الدور الذي بدأته الخمرة؛
فيكون الشاب حينذاك في وضع لا يمكنه أن يرفض أي شيء من أسرار الدين، وخاصة
أنه أصبح في الفردوس: الخمر والمرأة ([3]).
وهكذا تمر عملية الدخول
في النصيرية بطقوس عديدة يحصل فيها للداخل أمور كثيرة ومتنوعة من الذلة
والمهابة، وبعد تلك الخطوات يُفضى إليه بأسرار العقيدة، وبعدها تُؤخذ عليه
الأيمان المغلظة بكتم الأسرار وعدم البوح بها.
وفيما يلي نموذج لشخص
يروي قصة دخوله في النصيرية وهو صاحب كتاب الباكورة السليمانية سليمان
الأذني الذي دفع حياته ثمناً لإذاعته الأسرار.
ومع أن فيما يرويه
الأذني بعض الاختلافات اليسيرة عما جاء في الطريقة التي مر معنا شيء منها
إلا أنه في الإمكان أن نأخذ الخطوط العريضة التي يسير عليها النصيريون في
كلتا الطريقتين.
وفيها - أيضاً - بيان لما يصيب الشاب من أساليب نفسية رهيبة.
يقول
سليمان الأذني متحدثاً عن قصته إني ولدت في مدينة أنطاكية سنة 1250هجرية،
وأقمت فيها نحو سبع سنين ثم انتقلت إلى أدنه، ولما بلغت السنة الثامنة
عشرة من العمر أخذ بنو طائفتي يطلعونني على أسرارهم الباطنة التي لا
يكشفونها إلا لمن بلغ هذا السن أو سن العشرين.
وفي ذات يوم اجتمع
منهم جمهور من الخاصة والعامة، واستدعوني إليهم، وناولوني قدح خمر ثم وقف
النقيب بجانبي وقال لي: قل بسرِّ إحسانك يا عمي، وسيدي، وتاج رأسي أنا لك
تلميذ، وحذاؤك على رأسي.
ولما شربت الكأس التفت إلي الإمام قائلاً
لي: هل ترضى أن ترفع أحذية هؤلاء الحاضرين على رأسك؛ إكراماً لسيدك فقلت:
كلا بل حذاء سيدي فقط؛ فضحك الحاضرون؛ لعدم قبولي القانون، ثم أمروا الخادم
فأتى بحذاء السيد المذكور، فكشفوا رأسي، ووضعوه عليه، وجعلوا على الحذاء
خرقة بيضاء، ثم أخذ النقيب يصلي عليّ لكي أقبل السر، ولما فرغ من الصلاة
رفعوا الحذاء عن رأسي، وأوصوني بالكتمان، وانصرفوا؛ فهذه الجمعية يسمونها
المشورة.
ثم بعد أربعين يوماً اجتمع جمهورٌ آخر، واستدعوني إليهم،
ووقف السيد بجانبي وبيده كأس خمر، فسقاني الكأس وأمرني بأن أقول سر ( ع م
س) أما العين فهي علي ويسمونه المعنى، وأما الميم فهي محمد ويسمونه الاسم
والحجاب، وأما السين فهي سليمان الفارسي ويسمونه الباب.
ثم بعد ذلك
قال لي الإمام: أنه فرض عليك أن تتلو هذه اللفظة كل يوم خمسمائة مرة وهي
سرّ عمس، ثم أوصوني بالكتمان وانصرفوا وهذه الجمعية الثانية يسمونها بجمعية
المليك.
ثم بعد سبعة أشهر - والمدة للعامة تسعة أشهر - اجتمع جمهور
آخر -أيضاً- واستدعوني حسب عادتهم وأوقفوني بعيداً عنهم، ونهض وكيل من بين
الجماعة والنقيب عن يمينه، والنجيب عن شماله، وبيد كل واحد منهم كأس خمر
واستقبلوا نحو الإمام مترنمين الترنيمة الثالثة التي هي للحسين بن حمدان
الخصيبي، وسيأتي ذكرها بعد انتهاء صلاة أعيادهم، وبعد ذلك توجهوا نحو
المرشد الثاني مترنمين له هذه الترنيمة:
سألت عن المكارم أين حلُّوا
بعض الناس دلوني عليكا
بحق محمد مع آل بيته
ارحم من أتى يقبل يديكا
قصدتك لا تخيب فيك ظني
نحن اليوم محسوبين عليكا