اختلف الناس في معنى قوله : أو التابعين غير أولي الإربة فقيل : هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء . وقيل الأبله . وقيل : الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم ؛ وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن . وقيل العنين . وقيل الخصي . وقيل المخنث . وقيل الشيخ الكبير ، والصبي الذي لم يدرك . وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى ، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء . وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة : باديسة بنت غيلان ، أمر بالاحتجاب منه . أخرج حديثه مسلم ، وأبو داود ، ومالك في الموطأ ، وغيرهم عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة . قال أبو عمر : ذكر عبد الملك بن حبيب ، عن حبيب كاتب مالك ، قال : قلت لمالك : إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان : ( أن مخنثا يقال له هيت ) وليس في كتابك هيت ؟ فقال مالك : صدق ، هو كذلك وغربه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها . قال حبيب : وقلت لمالك : وقال سفيان في الحديث : إذا قعدت تبنت ، وإذا تكلمت تغنت . قال مالك : صدق ، هو كذلك . قال أبو عمر : ما ذكره حبيب كاتب مالك ، عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة ( أن مخنثا يدعى هيتا ) فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام ، لا ابن عيينة ولا غيره ، ولم يقل في نسق الحديث ( إن مخنثا يدعى هيتا ) وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث ، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في [ ص: 218 ] الحديث : إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت ، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة ، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي ، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ، ويحكي عن مالك أنه كذلك ، فصارت رواية عن مالك ، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا ، والله أعلم . وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم ، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به . ذكر الواقدي ، والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها ، وأمه عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع : إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، مع ثغر كالأقحوان ، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت ، بين رجليها كالإناء المكفوء ، وهي كما قال قيس بن الخطيم :
تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قضف
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله . ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى . قال : فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة ؛ في قول الكلبي . ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى ، ثم كلم فيه عثمان بعد . وقيل : إنه قد كبر وضعف واحتاج ، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه . قال : وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وكان له طويس أيضا ، فمن ثم قبل الخنث . قال أبو عمر : يقال ( بادية ) بالياء و ( بادنة ) بالنون ، والصواب فيه عندهم بالياء ، وهو قول أكثرهم ، وكذلك ذكره الزبيري بالياء .
[ ص: 219 ] السادسة عشرة : وصف التابعين ب ( غير ) لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم ، فصار اللفظ كالنكرة . و غير لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة . وإن شئت قلت هو بدل . والقول فيها كالقول في غير المغضوب عليهم . وقرأ عاصم وابن عامر ( غير ) بالنصب فيكون استثناء ؛ أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم . ويجوز أن يكون حالا ؛ أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن ؛ قاله أبو حاتم . وذو الحال ما في ( التابعين ) من الذكر .
السابعة عشرة : قوله تعالى : أو الطفل اسم جنس بمعنى الجمع ، والدليل على ذلك نعته ب ( الذين ) . وفي مصحف حفصة ( أو الأطفال ) على الجمع . ويقال : طفل ما لم يراهق الحلم . و ( يظهروا ) معناه يطلعوا بالوطء ؛ أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن . وقيل : لم يبلغوا أن يطيقوا النساء ؛ يقال : ظهرت على كذا أي علمته ، وظهرت على كذا أي قهرته . والجمهور على سكون الواو من ( عورات ) لاستثقال الحركة على الواو . وروي عن ابن عباس فتح الواو ؛ مثل جفنة وجفنات . وحكى الفراء أنها لغة قيس عورات بفتح الواو . النحاس : وهذا هو القياس ؛ لأنه ليس بنعت ، كما تقول : جفنة وجفنات ؛ إلا أن التسكين أجود في عورات وأشباهه ، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا ؛ فلو قيل هذا لذهب المعنى .
الثامنة عشرة : اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين : أحدهما : لا يلزم ؛ لأنه لا تكليف عليه ، وهو الصحيح . والآخر يلزمه ؛ لأنه قد يشتهي وقد تشتهي أيضا هي فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر . ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي ، والصحيح بقاء الحرمة ؛ قاله ابن العربي .
التاسعة عشرة : أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة ، وأن المرأة كلها عورة ، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما . وقال أكثر العلماء في الرجل : من سرته إلى ركبته عورة ؛ لا يجوز أن ترى . وقد مضى في ( الأعراف ) القول في هذا مستوفى .
الموفية عشرين : قال أصحاب الرأي : عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة . [ ص: 220 ] ابن العربي : وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة ، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة ، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين ، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم ، فما لنا ولذلك ! هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد . وقد تأول بعض الناس قوله : أو ما ملكت أيمانهن على الإماء دون العبيد ؛ منهم سعيد بن المسيب ، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء ، هذا بعيد جدا وقد قيل : إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ؛ حكاه المهدوي .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها ؛ فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد ، والغرض التستر . أسند الطبري ، عن المعتمر ، عن أبيه أنه قال : زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت ؛ فنزلت هذه الآية . وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها ؛ قاله الزجاج .
الثانية والعشرون : من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه . ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم . وكذلك من ضرب بنعله من الرجال ، إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة . وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز .
الثالثة والعشرون : قال مكي رحمه الله تعالى : ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه ، جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع .
قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : وتوبوا أمر . ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة ، وأنها فرض متعين ؛ وقد مضى الكلام فيها في ( النساء ) وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك . والمعنى : وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى ، فلا تتركوا التوبة في كل حال .
الثانية : قرأ الجمهور ( أيه ) بفتح الهاء . وقرأ ابن عامر بضمها ؛ ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة ، فيكون إعراب المنادى فيها . وضعف أبو علي ذلك جدا وقال : آخر الاسم [ ص: 221 ] هو الياء الثانية من أي ، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم ، ولو جاز ضم الهاء هاهنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في ( اللهم ) لاقترانها بالكلمة في كلام طويل . والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة ، فإن القرآن هو الحجة . وأنشد الفراء :
يا أيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس
اللعس : لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا ، وذلك يستملح ؛ يقال : شفة لعساء ، وفتية ونسوة لعس . وبعضهم يقف ( أيه ) . وبعضهم يقف ( أيها ) بالألف ؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام ، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على ( محلي ) من قوله تعالى : غير محلي الصيد . وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في ( يا أيه الساحر ) . ( يا أيه الثقلان ) .
المصدر
http://www.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?flag=1&bk_no=48&surano=24&ayano=31